الرئيسية » الأخبار »
08 كانون الثاني 2010

الدكتور فتحي عرفات في ذكرى وفاته الخامسة

أياديه البيضاء شواهد حية على إسهاماته الإنسانية
نعيم ناصر

افتقدت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في الأول من شهر كانون الأول (ديسمبر) 2004، مؤسسها وبانيها وراعي تطورها الصحي والاجتماعي المرحوم الدكتور فتحي عرفات. كما افتقده الشعب الفلسطيني في الوطن، وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، وبخاصة في لبنان، لإسهاماته الجليلة في بلسمة جراح ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية، من أبناء وبنات شعبنا.

وحياة الراحل كانت زاخرة بالعطاء الإنساني، والتفاني من أجل زرع البسمة على شفاه الأطفال الفلسطينيين.

ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية في العام 1965 التحق الراحل بركبها. وعندما اشتد ساعدها بعد هزيمة حزيران 1967، ترك الدكتور فتحي عرفات، عمله كطبيب في الكويت، والتحق بصفوف الثورة في الأردن، ليس مقاتلاً بالسلاح، وانما طبيب ليبلسم جراح شعبه النازف بفعل ممارسات الاحتلال، وتهجيره الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، لإدراكه أن العمل الإنساني، وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية لأبناء شعبه، لا يقل شأناً عن النضال السياسي من أجل الحرية والاستقلال الوطني.

كانت بداية نضاله الإنساني، تأسيسه لنواه الخدمات الطبية في حركة فتح، ثم ادراكه، هو واخوة له، أهمية أن لا يحصروا نشاطهم ضمن دائرة ضيقة تقتصر على علاج الجرحى، بل يتعداها ليشمل ليس أسرهم وعائلاتهم، فحسب، وانما أبناء شعبهم الفلسطيني في مخيمات الأردن ولبنان وسورية، والتجمعات الفلسطينية في الدول العربية الأخرى. وبناء على ذلك تبلورت هذه الفكرة ونضجت في عقل الدكتور عرفات، وباقي زملائه من مؤسسي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وواضعي اللبنة الأولى في صرحها.

وتجسدت الفكرة ببدايات متواضعة تمثلت بإنشاء أول عيادة للجمعية في مخيم ماركا (شنلّر)، الواقع في ضاحية عمان، معتمدين في ذلك على دعم شعبهم لهم، وجهود شباب وشابات المخيم.

لقد كرس الراحل كل جهده لإنجاح هذا العمل الوطني والإنساني. وكانت النتائج فعلاً تفوق التصورات، الأمر الذي شجعه، وشجع المؤسسين الأوائل على افتتاح أكثر من عيادة ومستوصف

ومركز ومستشفى في أكثر من مدينة ومخيم في الأردن.

وفي الوقت، الذي كان يجري العمل فيه في منشآت الجمعية في الأردن، وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية، كانت توضع الخطط لتأسيس منشآت صحية واجتماعية مماثلة لخدمة أبناء المخيمات والتجمعات الفلسطينية، في سورية ولبنان ومصر. وكان يجري تنفيذ هذه الخطط مباشرة بعد إكتمالها، بجهد وعمل واشراف الراحل شخصياً، وجهود رفاقه من الرواد الأوائل، مدعومين في كل محطة من محطات البناء، بأبناء شعبهم المعطاء.

وما أن حل تاريخ السادس والعشرين من شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1968، وهو موعد الإعلان الرسمي عن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، إلا وكانت أكثر من عيادة ومؤسسة صحية واجتماعية، مجسدة على أرض الواقع تقدم خدماتها لمستحقيها من أبناء المخيمات.

ومنذ ذلك التاريخ أخذت العيادات والمراكز والمستوصفات تنبت كالفطر في تجمعات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وبخاصة في لبنان وسورية ومصر والسودان، وأخذت خدماتها تتطور كماً ونوعاً، بحيث غدت الجمعية تقوم بعمل وزارتي صحة وشؤون اجتماعية، ويعتمد عليها أبناء المخيمات اعتماداً كلياً، من جهة احتياجاتهم الصحية والاجتماعية.

وبفضل خدماتها المجسدة على أرض الواقع في المخيمات والتجمعات الفلسطينية، وجهود الراحل شخصياً، تم اعتماد الجمعية من قبل المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة، التي عقدت في القاهرة العام 1969، كجهة رسمية مسؤولة عن صحة الشعب الفلسطيني في منظمة التحرير الفلسطينية.



وعلى الرغم من القيود، التي فرضها الاحتلال على نشاط جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في الأراضي المحتلة، منذ العام 1967 وحتى أواخر العام 1994، عمل الراحل المستحيل للاسهام في تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية لشعبنا الرازح تحت الاحتلال، عبر طرق ووسائل عديدة، ونجح في ذلك، بحيث غدت الجمعية عنصراً فاعلاً في دعم شعبنا في الأراضي المحتلة صحياً، وتعزيز صموده.

وعقب انتقال قيادة الشعب الفلسطيني من المنافي الى أرض الوطن في العام 1994، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية وعودته الى فلسطين، عمل الراحل بدأب على توحيد عمل فروع الهلال الأحمر في الضفة الغربية وقطاع غزة الى الجمعية الأم، وكرس هذا الجهد في المؤتمر العام السابع للجمعية الذي عقد في خانيونس العام 1996، وتعزز في المؤتمر العام الثامن، الذي عقد في غزة، العام 2000.

ومثلما أنجزت قيادة الجمعية برئاسته عشرات العيادات والمستشفيات والمراكز الصحية والاجتماعية في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان وسورية ومصر مثل مجمع عكا ومجمع حيفا ومستشفى غزة، ومستشفى الهمشري في لبنان، ومجمع دير ياسين ومجمع الكرمل ومستشفى يافا ومستشفى فلسطين ومستشفى بيسان في سوريا ومستشفى فلسطين في القاهرة وغيرها من المؤسسات الأخرى، فعلت الأمر نفسه في الضفة الغربية وقطاع غزة، والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى، لعل أبرزها مدينة الأمل في خانيونس، التي تضم مستشفى الأمل، وكلية تنمية القدرات، ومركز التأهيل وتنمية القدرات والورش التابعة له، وغيرها من الأقسام، ومجمع مدينة النور في مدينة غزة، التي تشمل من جملة ما تشمل مستشفى القدس وكلية الفالوجا للتمريض، ومركز التراث، ومركزاً كبيراً للإسعاف والطوارئ، والمقر الجديد لفرع الجمعية في نابلس، والمبنى الجديد للمقر العام للجمعية في البيرة، الذي يعتبر من أكبر وأضخم المباني في مدينتي البيرة ورام الله، وغيرها من المنجزات العديدة، التي لا يتسع المجال لتعدادها وذكر الخدمات، التي تقدمها لمواطني شعبنا. هذا عدا أن الجمعية، وبتوجيهات من الراحل الكبير، وضعت كل امكاناتها وخبراتها، وخططها، وبخاصة الخطة الوطنية الصحية، التي صاغها المجلس الصحي الفلسطيني، ومجلس البحث والتخطيط، بإيعاز من الراحل الكبير في أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي، لتكون تحت تصرف وزارة الصحة الفلسطينية الفتية.



تماهي شخصيته مع شخصية الجمعية

لقد ارتبطت هذه الإنجازات الحضارية والإنسانية لشعبنا وجمعيتنا، باسم المرحوم الدكتور فتحي عرفات، فلا تذكر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، الا ويرتبط اسمها باسمه، أو يذكر المرحوم الا ويرتبط اسمه باسمها.. لقد تماهت شخصيته بكيان الجمعية، بحيث أصبحت جل اهتمامه، وكانت على حساب حياته الخاصة، وحياة أسرته.. وبعبارة أخرى أصبح تطوير عمل الجمعية وتوسيع خدماتها شغله الشاغل.. فلا نبالغ اذا قلنا أن كل جلساته العامة والخاصة، كانت تتمحور حول كيفية تعزيز أنشطة وفعاليات الجمعية لتشمل أغلب القطاعات الفلسطينية، ولا سيما الفئات المحرومة.

أما عن توظيف مكانته وامكاناته لدعم مشاريع الجمعية فحدث بلا حرج. فهو في زياراته العربية والأجنبية، كان يكرسها كلها لهذا الغرض. وكان رحمه الله بارعاً في كسب الأصدقاء، من مختلف الجنسيات، ليس لدوافع شخصية، وانما بهدف تجييرها لصالح جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، والقضية الفلسطينية، وكان دائماً يردد في مجالسه الخاصة انه لا يمكن أن يعيش من دون أصدقاء، وانه كالسمكة، اذا أخرجت من الماء فانها تموت، وهو، كذلك، فانه اذا نزع من وسط أصدقائه ومحبيه، فانها النهاية بالنسبة له، لذا فانه نادراً ما شوهد لوحده، حتى وان كان يمارس رياضة المشي المحببة اليه.

وبفضل سماته تلك، ونشاطه الفذ، وحضوره الفعال في المؤتمرات الصحية والإنسانية، العربية والأجنبية، استطاع الراحل أن يبرز الجانب الإنساني في نضال الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال الوطني، ويجسد اسم فلسطين في أذهان الألوف، ممن شاركوا في هذه الفعاليات، وبالتالي في المؤسسات، التي يمثلونها.

وبهمة الشباب، التي كانت سمة بارزة ملازمة له طيلة حياته، حتى وهو قابض على الجمر من شدة آلام المرض الذي ألم به، نجح في تمكين فلسطين وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني من أن تتبوأ مكانها في المنظمات الإنسانية، العربية والدولية، سواء بالعضوية الكاملة، في المنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر، أو تلك التابعة لدول عدم الانحياز، أو بالعضوية المراقبة ثم الدائمة لاحقاً في الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر.

وطيلة مسيرته الإنسانية على رأس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، لم يترك الشهيد أمور الجمعية للصدف، وانما كان يبادر الى وضع الخطط والبرامج المستقبلية لأنشطة وفعاليات الجمعية، على الصعد كافة، وخصوصاً الصحية والاجتماعية، لتدارك الإرباك في العمل، وعدم تأثير الأحداث الطارئة على الخدمات، التي تقدمها.. وعليه كانت مستشفيات وعيادات ومراكز الجمعية على أهبة الاستعداد لكل طارئ، وخصوصاً في لبنان، عندما كان يتعرض الشعب الفلسطيني ومؤسساته هناك للاعتداءات والقصف من قبل الجيش الإسرائيلي، وكانت لدى الجمعية، دوماً مراكز وعيادات ومستشفيات ميدانية بديلة، لتلك التي تقصف وتدمر من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وبناء على هذه الاستراتيجية، لم يرتبك عمل الجمعية، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت، العام 1982، جراء تدمير عدد كبير من منشآتها، بفعل الاعتداءات الواسعة، ولم تؤثر كثيراً في الخدمات، التي تقدمها، في هكذا أوضاع، وخصوصاً في مجالي الصحة والإسعاف، وذلك بسبب المراكز الصحية والمستشفيات البديلة، التي أنشأتها الجمعية لمواجهة الأعباء الصحية للاجتياح الاسرائيلي. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، أنه خلال حصار بيروت، انشأت الجمعية أكثر من 28 مستشفى ميدانياً لإسعاف الجرحى والمصابين واجراء العمليات الطارئة لهم، كان أغلبها يتم على ضوء الشموع، بسبب قطع التيار الكهربائي عن العاصمة اللبنانية.

وكل هذا الجهد الإنساني كان يتم بأيد فلسطينية خبيرة، استمدتها من تجاربها السابقة، ومن تعاملها مع ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية في الأردن وسورية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات.

وبالنهج ذاته الذي أرساه الفقيد فتحي عرفات، تعاملت الجمعية، مع ضحايا الاجتياح الإسرائيلي لمدن وبلدات وقرى الضفة الغربية، واعتداءات قوات الاحتلال المتكررة على مدن ومخيمات قطاع غزة. فبالرغم من شراسة الهجمة الإسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين، وسياسة الحصار وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية، عملت مراكز الجمعية المختلفة، وخصوصاً طواقم الإسعاف والطوارئ، بكامل طاقتها، لبلسمة جراح الشعب الفلسطيني، وتخفيف آلامه. وكان من نتيجة هذا التفاني في العمل ان استشهد العديد من طواقم الإسعاف والعاملين في الخدمات الطبية الأخرى، وجرح العشرات منهم، وهم يقومون بواجبهم الانساني.



وبالرغم من الخسارة الكبيرة، التي لحقت بالجمعية، بفقدان الشهيد فتحي عرفات في العام 2004، الا أن النهج الذي رسمه المرحوم وسار عليه طيلة حياته والمتمثل في هيكلية الجمعية ونظامها الأساسي، وعقد مؤتمراتها الدولية بانتظام، سيبقى نبراساً تهتدي به كوادر الجمعية، في عملها الإنساني، وشاهداً على أن حضور الراحل سيبقى مجسداً في أنشطة الجمعية وفعالياتها، رغم أن جسده وروحه غابتا عنها، وستبقى الجمعية هي فتحي عرفات، وفتحي عرفات هو الجمعية.